تخطي أوامر الشريط
التخطي إلى المحتوى الأساسي
تسجيل الدخول

    ندوة تجسير 3



    إشكالية الوصل والفصل بين العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال الثنائي الفلسفة والتاريخ

    في 11 ديسمبر 2022، استضافت مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية الأستاذ الدكتور وجيه كوثراني المؤرخ وأستاذ التاريخ بمعهد الدوحة للدراسات العليا بقطر في ندوتها الثالثة. قدم الدكتور كوثراني محاضرة بعنوان" إشكالية الوصل والفصل بين العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال الثنائي الفلسفة والتاريخ، دراسة حالات في سياقات تاريخية “، وذلك ضمن ندوات تجسير الشهرية التي تقام عبر منصة ويبكس في الثامنة مساء وتستمر لمدة ساعة ونصف.

    استهلّ الضيف حديثه عن العلاقة المتأصلة بين الفلسفة والتاريخ، وما يتجاذبهما من معارف هامة، مثل: السياسة، والاقتصاد، والأنماط الاجتماعية، والأخلاق، فهي ما تشكل في مجموعها حالة غنية ومعقدة بتركيبها ومتجاذبة في الحاجة والاستخدام المعرفي لها بين الفيلسوف والمؤرخ، مع الاعتراف باستحواذ الفلسفة على تلك المعارف على مدار الأزمنة التاريخية منذ المرحلة اليونانية وحتى العصور الأوروبية الحديثة ومرورا بالحضارة الإسلامية الكلاسيكية.

    ولمناقشة الموضوع أكثر، خصّ د. كوثراني حديثه بالوقوف على ثلاث حالات تاريخية، أولها: الزمن اليوناني القديم، الذي امتدّ من القرن 5إلى 3 قبل الميلاد، وشهد بروز فلاسفة كبار، ومؤرخين عظام؛ حيث يرى المحاضِر أن ثمة علاقة واطلاع من قبل كل جهة على جهد الضفة الأخرى، فقد أشار الدكتور وجيه إلى اطلاع الفيلسوف أرسطو، بل حتى أفلاطون نسبيّا على التواريخ اليونانية، مستندا إلى ما قدمه المترجم الفرنسي لكتاب أرسطو (في السياسة).الذي ساءل أسلافه، لا ليفندهم، بل ليجمع ما يمكن أن تشمله النظريات وتلك الدساتير من طيب قابل للتطبيق، مجانبا لما فيه من خبيث، والأمر نفسه في كتابيه ( ما بعد الطبيعة)، و( النفس)، لأجل ذلك سُمِّي أرسطو بحقٍّ أول مؤرّخ للفلسفة. أما مؤرخو اليونان، حسب وجهة نظر د. كوثراني فقد خضعت أعمالهم لمنظور فلسفي سياسي، دلّت عليها دراسات، مثل: دراسات الفيلسوف الفرنسي فرانسوا شاتليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مستنتجًا منها أن المؤرخين اليونانيين كانت لهم صياغاتهم البحثية التاريخية التي تضمنت نوعا من فلسفة التاريخ واستشرافه. أما المثال الثاني، فقد كان اهتمام الثقافة الأنغلوفونية خاصة في لندن والولايات المتحدة بمؤرخي اليونان، ولاسيّما المؤرخ " ثيوسيديدز " الذي عُدّ مؤسسًا لفلسفة السياسة الواقعية.

    ثم عرّج الدكتور وجيه كوثراني، على النموذج الإسلامي الكلاسيكي، فهذا النموذج من وجهة نظر الضيف، امتلك شبكة من العلاقات بين التاريخ والفلسفة، وما بينهما من أنواع الكتابات التي أسماها بالكتابات الحرّة المتنوعة والتي ضمّت كمًّا هائلا من أنماط الحياة الاجتماعية والسياسية ومراتبها الرسمية والشعبية لدى الخواص والعوام، أو ما يعرف بالتاريخ السفلي أو التاريخ من تحت. فالتراث العربي في مجال الكتابة الحرة قد وصف كل الطبقات، ومن هذه المؤلفات؛ فهرست ابن النديم، ووفيات الأعيان لابن خلكان، ومعجم الأدباء، فضلا عن كتب الطبقات العديدة. فقد وضع السخاوي فصلا عنوانه تصانيف التاريخ، وهو معني بما تتناوله حديثا التاريخانية الجديدة، والتي تولي اهتمامها بالمهمشين والمستضعفين وإلخ...فهو يورد إلى جانب تاريخ الأنبياء، والولاة، والقادة...تاريخ البخلاء، والطفيلية، والشجعان، والخرس، والأضرار، والمنجمين.... فكل هذه الجزئيات وغيرها مدارها الحياة اليومية والاجتماعية لكل الناس والطبقات. وهناك كتابات الأدب؛ حيث يختلط الخبر والنادرة والعلم والموقف الكلامي والفقهي... فهذه المخطوطات تحتاج لقراءة ودراسات تقوم بها المراكز البحثية؛ لوقوعها ضمن ما يعرف بالتاريخانية الجديدة، فهذا التاريخ من الأسفل، أو تاريخ العقليات والذهنيات، تتعاضد فيه المناهج الإنسانية والاجتماعية لمقاربة الموضوعات. ومادام التراث العربي يتضمن كل هذا، فإن الجهوزية – كما يذكر د. كوثراني- تحتاج للكشف البحثي عنها بجهود مؤسسة عربية.

    وأردف د. كوثراني ملاحظات على النموذج العربي في مسألتين: شفافية العلاقة بين التاريخ والقطاعات الأخرى من معارف التراث المختلفة. والمسألة الثانية تعريف ابن خلدون لعلم التاريخ وتمييزه بين ظاهره وباطنه، وهو يرى أن ابن خلدون قد دعا في مقدمته إلى دراسة العمران البشري، وما يقصد به – وفق رأي د. وجيه- علم التاريخ لا علم الاجتماع كما يذهب السيسيولوجيون، وهو يشير أيضا إلى ملاحظة ابن خلدون لذهاب الفلسفة بالترجمة إلى الجناح الأوروبي، وغيابها في الجزء العربي بعد انحدار حضارته وتفكك دوله، وقد نوّه كذلك بقول ابن خلدون (التاريخ جدير بأن يكون من علوم الحكمة) في إشارة إلى العلاقة الوطيدة بين العلمين.

    توقف أخيرا الدكتور وجيه كوثراني عند المحطة التاريخية الثالثة؛ حيث النموذج الغربي الأوروبي الممتد من الربع الأخير من القرن التاسع إلى أوائل القرن العشرين الميلادي. فهذا العصر هو عصر الفلسفات بامتياز – كما يرى المحاضِر- وهو أيضا عصر الثورات، والحروب، وتتصارع فيها الإيديولوجيات المختلفة، علاوة على ازدهار العلم، ووعود العلماء بالحلول الشافية للأمراض البيولوجية والنفسية وغيرها. كل هذا له انعكاسات وأصداء على الفلسفة والتاريخ.

    ففلسفيًا: الهيجلية والماركسية جمعهما المنهج الجدلي في تفسير التاريخ، وفهم مساره، وتوقع مآله، فالهيجيلية في رهانها من أجل الصراع للحصول على دولة الحرية والحريات، والماركسية في الثورة العمالية والوصول للشيوعية. وكلتا النظريتين ترى في التاريخ منبعا لاستقراء الحركة التاريخية لتتقدم نحو النهاية السعيدة.

    أما فلسفة الإرادة لشوبنهار فقد انتظرت صيحة نيتشه ضد صمامية الفلسفة، ففي مقالة نيتشه (محاسن التاريخ ومساوئه للحياة)، أوضح إنه إذا ظلّ التاريخ على اعتدال مع مفاخر الماضي وأمجاده فله محاسنه، شرط ألا يكون الماضي بديلا للحاضر وحابسا للحاضر في ماضيه، حتى لا يصبح قيدا ومصدرا لشلل الإرادة والعمل من أجل الحياة. فنيتشه هنا برأي د. وجيه كوثراني يوجّه نقده للمدرستين الوضعانية التاريخية في ألمانيا، والمدرسة المنهجية في فرنسا.

    وعلى الرغم من جهود المدرستين إلا أنهما اتجها بالتاريخ للكتابة القومية، فصار التاريخ يعرف بعلم الدولة، ووقع في فخ الإيديولوجيا، وألفت الكتب المدرسية التاريخية وأقيمت أقسام خاصة للتاريخ في الجامعات، مما عزّز تعميق الفصل والانفصال بين الاختصاصات.

    في حين كانت للفلسفة قوة وهيمنة وسلطة قبل التحول وتقعيد ومأسسة علم التاريخ أكاديميا، إذ ان علم الاجتماع وعلم النفس كانا لا يزالان ضمن الفلسفة، قبل أن يبدأ نضال دوركايم في تحويل علم الاجتماع إلى اختصاص مستقلّ، مولفا كتابه ( قواعد المنهج للسيسيولوجيا)، وأعقبه في ذلك دور ماكس فيبر الذي كان له أثر كبير في ظهور علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع التاريخي للتأكيد على اندماجه في علاقة بينية مع تخصصات أخرى. في حين كان الجيل الجديد من المؤرخين يسعون لكتابة التاريخ الاجتماعي مكملا للتاريخ السياسي مؤسسين مجلة (الحوليات) التي تجاوزت التاريخ السياسي والعسكري لتهتم بالاقتصادي والاجتماعي، والتي كان لها تأثيرات على مفكرين كبار مثل فوكو، وبيار بورديو في كتابه (الدولة)، الذي اعتبر أنه لا يمكن أن تكون هناك كتابة سيسيولوجية بدون تاريخ، فعالم الاجتماع مؤرخ يتخذ الحاضر موضوعا له.تلا ذلك مداخلات وأسئلة طرحها حضور الندوة التي استمرت ساعة ونصف.